إعلان الرئيسية

الصفحة الرئيسية جوهر الهايكو وسط موجات التقليد والتجريب/ نسيم سعداوي

جوهر الهايكو وسط موجات التقليد والتجريب/ نسيم سعداوي

حجم الخط

 

نسيم سعداوي













هايكو العالم H W

توصل موقع هايكو العالم  https://www.haikuworld24.com/   بمقال بقلم أستاذ نسيم سعداوي يطرح فيه عدة قضايا لها علاقة بالهايكو. وهي قضايا مازالت ملحة في الوطن العربي وتهم ماهية الهايكو والاستيعاب والتلقي والاستدماج والتوطين والتحديث. شكلا اتسم المقال بأسلوب حواري ممتع يختلف كليا عن أساليب المقالات التقليدية المعروفة، مضمونا اتسمت مقاربة مختلف القضايا المطروحة بالجرأة والإحاطة بحيث لم تقف عند التوصيف، بل تعمقت في التحليل لسبر مواطن الإشكالات القائمة كما اقترحت أفكارا ومخارج لتخطي عتبات الخلل والفوضى التي يتخبط فيا الهايكو عربيا. وإذ نشكر الأستاذ نسيم سعداوي، ننشر الورقة كاملة، في إطارإيماننا وعملنا على  ثقافة هايكوية واعية ومنفتحة  تنأى بنفسها عن التقليد والترديد والاصطفاف الأعمى أو التوطين والتجريب المتسرع في غياب رؤيا واضحة وأرضية نظرية صلبة:

___

جوهر الهايكو 

وسط موجات التقليد والتجريب

 

نسيم سعداوي[1]

 

مقدمة

عادةً ما تُناقش قضايا التجديد والتحديث في الشعر بأسلوب أكاديمي جاف، لكننا هذه المرة اخترنا أن نبتعد عن المقالات النقدية التقليدية، لنطرح المسألة بأسلوب حوار روائي مازح بين شخصيتين تجلسان على شرفة مقهى يطل على البحر.

في العالم العربي، دخل الهايكو كوافد جديد، لكنه سرعان ما أصبح ساحة للصراع بين التقليد الأعمى والتجريب الفوضوي. البعض يحاول جعله عربيًا صرفًا، والبعض الآخر يضيف إليه البلاغة والزخرفة ليجعل منه "منتجًا محليًا"، بينما يهرع آخرون لتقسيمه إلى مدارس ومسميات لا تضيف إليه سوى الضبابية. وسط كل هذا، يغيب السؤال الجوهري: هل نفهم الهايكو كما هو، أم أننا مشغولون بتعديله قبل أن نعي جوهره؟

في الحوار التالي، سنستعرض هذه الإشكالية بطريقة مختلفة، حيث تمتزج السخرية بالنقد، ويتداخل المزاح مع التأمل العميق، لنرى كيف تتشكل أزمة الحداثة حين يُصبح التحديث مجرد تحنيط آخر بواجهة جديدة.

الحوار

صخب المسميات وجوهر الفن

[المشهد: شرفة مقهى تطل على البحر عند الغروب]

السماء تتدرج بين البرتقالي والأزرق الداكن، والموج يتمدد وينحسر بإيقاع هادئ. نسمات المساء تداعب ستائر القصب، وأصوات الملاعق الصغيرة تخالط هدير البحر. على الطاولات القريبة، تتناهى ضحكات خافتة من مرتادي المقهى، لكن عند الطاولة المطلة على البحر، ثمة حديث مختلف يدور بين رجلين.

الأول، متكئ على مسند كرسيه، يحرك قهوته ببطء، بينما الثاني أكثر تيقظًا، ينقر بأصابعه على الطاولة، كأنه في انتظار إجابة تُشفي فضوله.

العارف: (يرفع عينيه عن البحر) الغريب أنه في الثقافات الواعية، لا تُطرح أسئلة التجديد قبل أن يكون هناك فهم وتوطين وتراكمات أنطولوجية، وتفعيل نقدي، وحركات تأصيل… هذا ما عاشه الهايكو في مختلف الثقافات، حتى أصبح كيانًا عالميًا قائمًا بذاته، لا يحتاج إلى من يعيد اختراعه.

المشاكس: (يضحك) نعم، إلا في الوطن العربي، حيث مشروع تأصيله لا يزال قيد البناء، وتحذيره (إن جاز التعبير) قيد البحث والتجريب، ومع ذلك يصرّ البعض على القفز إلى مرحلة "التحديث" قبل أن يتضح لهم حتى ما الذي يحاولون تحديثه!

العارف: (مازحًا) ولهذا يخرج علينا بين الحين والآخر من يقترح "ثورة" جديدة في الهايكو، لكنه لا يفعل سوى إعادة تقديم الموجود مسبقًا بثوب غير مدروس، فيكشف بذلك عورات طرحه… لكنهم لا يملّون ولا يملّون!

المشاكس: (بابتسامة ساخرة) وما دخلهم أصلًا بالهايكو؟ المسألة مسألة "بوز" لا أكثر! ثقافة التسويق بالتواصل الاجتماعي زرعت فيهم شعار "اختلف تربح"، فصار كل من يبحث عن موطئ قدم في المشهد الثقافي يخترع مدرسة جديدة، وإن لم يكن فيها جديد سوى الاسم.

العارف: (يهز رأسه) ولهذا تسمع عن "الهايكو البصري"، و"هايكو الحلم"، و"الهايكو السريالي"، و"هايكو الحداثة"، و"هايكو ما بعد الحداثة"! كأن الأمر أشبه بمهرجان أزياء أكثر منه شكلًا شعريًا له خصائصه المعروفة.

المشاكس: (يقهقه) بل حتى التصنيفات اليابانية الأصلية مثل "هايكو شينكو"، و"هايكو جنداي"، و"هايكو مجدول"، تم استيرادها كما هي، دون فهم سياقها النقدي! أصبحنا نعامل الهايكو كأنه ماركة تجارية يجب أن تكون لها فروع محلية، لا كشكل شعري عالمي يتواصل به الناس عبر لغاتهم المختلفة دون الحاجة إلى كل هذا التنظير.

العارف: (يسند رأسه على كفه، متأملًا) لكن مع كل هذا، هل سيواجه الهايكو العربي بنسخته العالمية هذا التهريج كله؟

المشاكس: (يبتسم بثقة) طبعًا. ماهيته نفسها تحميه. الهايكو ليس مجرد شكل شعري عابر يمكن تزييفه أو اختراقه. هو قائم على جوهر خالص: لحظة مكثفة، طبيعة عميقة، نظرة خاطفة إلى الوجود. من يحاول تحريفه، سيجد نفسه أمام لغز لا يقبل العبث. لا يمكن "مراوغة" الهايكو، لأنه ليس زخرفة تُضاف أو تُحذف، بل رؤية، ومن لم يمتلكها، لن يستطيع خداع القارئ الحقيقي.

العارف: (يبتسم وهو يراقب حركة الأمواج) إذن، المسألة ليست فيمن يحاولون التلاعب به، بل فيمن يعرفون كيف يميزون الجوهر عن القشور…

المشاكس: بالضبط. والتاريخ أثبت دائمًا أن الضوضاء تتلاشى، بينما يبقى الأثر. والهايكو، في صورته الأصيلة، ليس شيئًا يزول مع الموجة… بل نقش يُترك على صخر الزمن.

[يصمتان للحظة. ترتفع أصوات الأمواج، متسللة إلى حديثهما كأنها تكملة لما لم يُقل.]

لغة الهايكو- أبعد من التكثيف

[الغروب يزداد عمقًا، وقناديل المقهى تبدأ بالاشتعال واحدًا تلو الآخر، مضيفة ألوانًا دافئة للمشهد]

المشاكس: (يلتفت فجأة كمن تذكر شيئًا مهمًا) "لكننا لم نتحدث بعد عن اللغة… الجميع يقول إن الهايكو قائم على التكثيف والإيجاز، فهل هذا هو سره الحقيقي؟"

العارف: (يبتسم، يحرك قهوته ببطء) "لا، هذا مجرد مظهر خارجي. لو كان الأمر متعلقًا بعدد الكلمات فقط، لكان أي نص مقتضب هايكو. الحقيقة أن الهايكو ليس 'شعرًا مختصرًا'، بل شعر لحظة، شعر لا يُكتب إلا بلغة تناسب اللحظة، كما وكيفًا، وبسر بلاغته الخاصة."

المشاكس: "لكن أليس التكثيف جزءًا من أسلوبه؟"

العارف: "التكثيف ليس هدفًا، بل نتيجة. انظر، الشعر التقليدي يعتمد على المجاز والتشبيه والاستعارة المعلنة، يرفع القارئ إلى صورة مكتملة الصنع، لكن الهايكو يعمل بشكل مختلف تمامًا. إنه لا يعلن المجاز، بل يستنبطه. لا يصف، بل يومئ. لا يقول الفكرة، بل يزرعها كبذرة في ذهن القارئ، ويتركها تنمو فيه، بسرعة اللحظة نفسها."

المشاكس: "بذرة؟"

العارف: "نعم، أو كبسولة معنى… تنفجر في وعي القارئ لحظة قراءتها، فتثير فيه مشاعر قد تكون أقوى مما تفعله أبيات الشعر التقليدية نفسها! المجاز في الهايكو لا يُقال، بل يُلمّح إليه… والمفارقة أن هذا التلميح قد يخلق في المتلقي صورة أعمق مما قد تصنعه كل التشبيهات المباشرة."

المشاكس: (يفكر قليلًا) "إذن، اللغة ليست مجرد وسيلة اختزال، بل وسيلة تفجير داخلي للمعنى!"

العارف: "بالضبط. وهنا تكمن عبقريته الحقيقية. إنه شعر لا ينتهي عند كتابته، بل يبدأ عند قراءته. وهذا ما يجعله أقوى من كل محاولات التحديث العشوائي… لأنه ليس قيدًا يمكن تغييره، بل طريقة رؤية للعالم. ومادام هناك من يراه بهذه الطريقة، فسيبقى الهايكو، رغم كل الضجيج، حاضرًا… لا يحتاج إلى جمهور، بل إلى قارئ واحد يفهم أثره."

الجوهر والتجريب الحقيقي

[الليل يحل تدريجيًا، وانعكاسات القمر تبدأ في التراقص على سطح الماء]

المشاكس: (ينظر إلى نصف القمر المنعكس في البحر) "لكن ألا يمكن أن يتطور الهايكو حقًا؟ أن يتغير بشكل جوهري مع الوقت؟"

العارف: (يتأمل المشهد) "التطور الحقيقي لا يتم بالتسميات والشعارات، بل بممارسة الفن نفسه. كل هايكو أصيل يحمل في داخله بذرة تطور، لأنه يرى العالم برؤية جديدة. عندما يكتب هايكو حقيقي، فإنه يضيف إلى تاريخ الهايكو نفسه، دون الحاجة إلى تنظير أو إعلان 'ثورة' على ما سبق."

المشاكس: "ومتى يكون التجريب حقيقيًا إذن؟"

العارف: "عندما ينبع من فهم عميق للهايكو أولًا. من تمثل جوهره. التجريب الذي يأتي من خارج التجربة مجرد تلاعب تقني. أما التجريب الحقيقي فهو الذي ينبع من داخل النص، من حضور الكاتب داخل لحظة الهايكو نفسها، ثم تطويرها بشكل طبيعي، لا قسري."

المشاكس: "هل تقصد أن التجريب يجب أن يكون نتيجة، لا هدفًا؟"

العارف: (يومئ بتأمل) "تمامًا. عندما أكتب، لا أقول: 'سأكتب هايكو حداثيًا'، بل أكتب لحظة الوجود كما أراها. وإن كانت رؤيتي جديدة، فسيكون هايكو جديدًا. الجدة ليست في الشكل فقط، بل في الروح."

المشاكس: "إذن، لسنا نبحث عن زخارف أو مدارس جديدة… بل عن أثر."

العارف: (ينظر إلى البحر) "تمامًا… ومن يبحث عن الأثر، لا يحتاج إلى ضجيج."

[يصمتون قليلًا، يراقبون البحر، حيث تمتزج آخر خيوط الضوء بصوت الموج، كأن الهايكو ذاته يكتب نفسه هناك، دون تكلف، دون زخرفة، فقط كما هو.]

المشاكس: (يقول بصوت خافت كمن يكتب هايكو)

"موجة صغيرة ~

على حافة الأفق

هل تبتلع القمر؟ "

 

العارف: (يبتسم بعمق) "أترى؟ اللحظة هي ما كتبت، لا الصيغة. وفي كل لحظة مثل هذه، يولد الهايكو من جديد، كما ولد أول مرة."

[تخفت الأضواء تدريجيًا، ويبقى صوت الموج وحده، يردد صدى حديثهما، كأنه يكمل حوارًا بدأ منذ قرون، ولا ينتهي أبدًا.]

خاتمة

في هذا الحوار، تجلّت إشكالية الهايكو العربي بين التقليد المتحجر والتجديد المتعجل. ليست المسألة في كثرة المسميات والتصنيفات، بل في فهم الجوهر الحقيقي لهذا الفن الشعري الفريد.

الهايكو ليس قالبًا جامدًا يُملأ بكلمات، ولا هو آلة تسويق ثقافية لصناعة "الفرادة" المزيفة. إنه لحظة وجود مكثفة، وطريقة في النظر إلى العالم، وأسلوب في التعبير يتجاوز الكلمات إلى ما هو أبعد منها.

ربما كان الدرس الأهم هو أن التجديد الحقيقي لا يأتي من الخارج، من فرض قوالب وتسميات، بل من الداخل، من عمق التجربة نفسها. ومن هنا يمكن للهايكو العربي أن يجد طريقه الخاص، ليس بالانفصال عن جذوره العالمية، ولا بالتقليد الأعمى لها، بل بفهم جوهرها وإعادة تجسيدها بروح جديدة تعكس واقعنا ولغتنا وثقافتنا.

وفي النهاية، سيبقى الهايكو الحقيقي، كالموجة، يتجدد في كل لحظة، بعيدًا عن ضجيج المنظّرين ودعاة التجديد الشكلي، مخلصًا لجوهره الأصيل: لحظة صافية من الوعي، تختزل الكون في بضع كلمات، وتترك أثرًا لا يُمحى.​​​​​​​​​​​​​​​​



[1] هايجن وباحث في الهايكو من تونس


ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق