![]() |
عبد الجابر حبيب- سوريا |
هايكو العالم
H W
في نادي هايكو العالم https://web.facebook.com/groups/275693359534635?locale=fr_FR طرحنا في أكثر من مناسبة
موضوع البنية السببية في الهايكو. وخلصنا إلى أن السببية كبنية منطقية تهدف
للتفسير والشرح والإقناع، في حين يكون الهايكو في حل، على نحو يكاد يكون تاما، من
أي تدخل عقلي للتوضيح وربط الأشياء بعلاقة ميكانيكية عقلانية تجمع بين السبب
والنتيجة في رباط سرمدي. وقدمنا للموضوع بأمثلة متنوعة تبرز عدم صلاحية البناء
السببي للهايكو كفن ينقل، يسجل اللحظة كما هي دون تدخل من أي نوعي في ماهية
الأشياء.
وتأتي
الورقة، التي نقترحها عليكم، في خضم هذ ا التداول لتنير بعض الزوايا وتطرح أسئلة أخرة ذات صلة بالموضوع.
_____
السببية
في الهايكو
لماذا
كانت جمالاً عند القدماء ومذمة عند المعاصرين؟
ذ. عبد الجابر حببب[1]
لطالما كان الهايكو موضع جدل بين التقليديين
والمجددين، وخاصة فيما يتعلق بعلاقته بالسببية. فالسببية، باعتبارها مبدأً يربط
بين السبب والنتيجة، تبدو عند البعض عائقاً أمام طبيعة الهايكو التي يُفترض أن
تلتقط اللحظة كما هي، دون تفسير أو تعليل. غير أن هذه الفكرة ليست محل اتفاق، إذ
إن بعض النصوص الكلاسيكية، ومنها ما كتبه إيسا، تظهر بوضوح أنها تحمل سببية، لكنها
مع ذلك لم تفقد قيمتها الشعرية، بل ازدادت جمالاً بفضل الأسلوب الساخر أو الطرح
الفني المميز.
كيف أبعد الهايكو عن السببية؟
يرى كثير من منظري الهايكو الحديث أن البناء
السببي يحوّل الهايكو إلى ما يشبه المعادلة المنطقية، بحيث يصبح النص مجرد بيان
سببي واضح، كأن نقول:
الطالب الذي لا يدرس سيرسب
أو في صورة هايكو:
رياح الشمال،
وجهها مفعم بالتجاعيد
ابنة الأمير
هنا، العلاقة بين السبب (الهواء البارد)
والنتيجة (التجاعيد) واضحة جدًا، مما يحوّل النص إلى تقرير سببي أكثر منه صورة
حسية مكثفة. هذا النوع من الكتابة لا يترك مجالًا للدهشة أو التأمل، إذ يقدم
الإجابة بدلاً من السماح للقارئ بالاستكشاف.
نص إيسا بين السببية والسخرية
رغم أن بعض المدارس الحديثة في الهايكو ترفض
السببية تماماً، إلا أن نصوصًا كلاسيكية مثل نص إيسا:
حتَّى البَقرةُ العَجوزُ
لها ذيلٌ
لكشِّ الذُّباب.
تظهر بوضوح وجود علاقة سببية بين الذيل ووظيفته.
لو قرأنا النص قراءة مباشرة، لوجدنا أن المعنى الظاهري يقول إن الذيل موجود لطرد
الذباب، وهو تفسير سببي بحت. لكن ما أنقذ هذا النص من المباشرة هو لمسة إيسا
الساخرة، التي جعلت من الملاحظة اليومية البسيطة مشهداً يحمل طابعاً فكاهياً
خفياً، فالبقرة العجوز قد تكون مرهقة أو غير قادرة على الحركة كما كانت في شبابها،
لكن الذيل لا يزال يؤدي دوره.
هنا يقول الأستاذ محمد بنفارس:
"لقد كاد هذا الهايكو أن يفقد بريقه لاعتماده
بناء السببية، لولا دهاء وفنية إيسا الذي ضخ منسوباً عالياً من الدعابة والسخرية
اللطيفة في أوصاله، فبدا لامعاً في لحظته كشهاب في ليل دامس."
بمعنى أن السببية في هذا النص ليست جامدة أو
تقريرية، بل أتت مغلفة بروح الدعابة، مما منحها بُعداً فنياً إضافياً.
هل يمكن القبول بالسببية في الهايكو الحديث؟
إذا كنا نعترف بأن نص إيسا محمّل بالسببية،
لكننا نغفر له ذلك بسبب سخريته وذكائه، فلماذا لا نقبل الأمر نفسه في هايكو حديث
قد يستخدم السببية بأسلوب أكثر حدّة أو تأثيراً؟
على سبيل المثال، هذه الصورة ذات البناء السببي
القوي:
حمار الفلاح،
لا يصدُّ هجوم الذباب
ذيله المقطوع
النص هنا يعبّر عن معاناة الحمار الذي فقد ذيله،
فأصبح عاجزًا عن طرد الذباب. رغم أن العلاقة بين السبب (قطع الذيل) والنتيجة (هجوم
الذباب) واضحة جداً، إلا أن المشهد ذاته يحمل شيئاً من المفارقة المؤلمة التي قد
تجعل القارئ يتفاعل مع النص بشكل شعوري أكثر من كونه مجرد تقرير سببي.
ختاماً: أين نرسم الخط الفاصل؟
الجدل حول السببية في الهايكو لن يُحسم بسهولة،
لأنه مرتبط بمفهوم أعمق حول وظيفة الهايكو نفسه: هل هو مجرد صورة لحظية خالية من
أي تفسير؟ أم أنه يسمح بقدر من الربط بين العناصر دون أن يفقد شاعريته؟
ما يتفق عليه كثيرون هو أن السببية وحدها لا
تفسد النص، بل أسلوب تقديمها هو الذي يحدد مدى نجاحه. فإذا جاءت السببية في سياق
ساخر، أو عبر مشهد يفتح مجالاً للتأمل، فإنها قد تصبح جزءاً من جماليات الهايكو
بدلاً من أن تكون مذمة. أما إذا تحولت إلى مجرد علاقة ميكانيكية بين السبب
والنتيجة، فإنها تقتل الدهشة التي تجعل الهايكو فناً قائماً بذاته...
ملاحظة: