![]() |
محمد بنفارس |
الهايكو والأمصار العربية
في
أبعاد تحريف التسمية
كما هو معلوم، ظهر الهايكو في القرن السابع عشر الميلادي على يد باشو(1)، بعد تطور غطى قرونا من التراكم الأدبي والشعري في اليابان. واتخذ لنفسه اسم هايكو سنة 1891م على يدد ماساوكا شيكي (2)، وعرف وتميز به إلى يومنا هذا لاختلافه الجدري عما سبقه من شعر ومقطوعات وموجز على مستويات اللغة والبنية والفنية والجماليات. ولذلك فالشعر شعر بنظمه ونثره، والهايكو هايكو بهويته وأدواته.
يضيف البعض للهايكو توصيف "قصيدة"، بينما يطلق عليه آخرون "مقطوعة". وقد بات استعمال لفظ قصيدة هو التداول الشائع عند القراء والهايجن والباحثين والنقاد. فهل يرجع ربط القصيدة بالهايكو إلى رغبة في "الرقي" بالهايكو إلى مصاف الشعر أي إلى مستوى القصيدة الشعرية؟ أم هي نزعة ومحاولة مبطنة لتذويب الهايكو في الشعر وشطبه كنوع مستقل من الوجود؟ خاصة إذا علمنا أن مصطلح القصيدة يرتبط تاريخيا وفي وجدان الشعوب ومنها، على وجه الخصوص، العربية بالشعر. فعلى أصحاب هذه الفتوحات التي تراوح مكانها دون أفق أن يقتنعوا، وإلى إشعار آخر، أن الهايكو نمط قائم بنسقه الذاتي والهوياتي وليس بحاجة إلى معينات ودعم خارجي من أي نوع، بل بات فارضا نفسه ويزاحم ويقلق في الساحة الأدبية العربية والعالمية، وقد تنبأ له نقاد بحضور ومستقبل واعد، ومنهم ما جاء على لسان محمد عضيمة في تدوينة له بصفحته الشخصية على الفيسبوك حين قال: " لا.. لا.. لا زمن الشعر ولا زمن الرواية ولا بطيخ.. إنه زمن الهايكو والقادم أجمل" و صرح بنبرة حاسمة، وهو المطلع على الثقافة اليانياية وعلى وضعية الهايكو في البلاد التي لا تغرب عنها الشمس: " الهايكو لفظة قوية جدا، وتحتل الآن مساحة واسعة جدا من العالم، ولذا سيصعب على أية لفظة أخرى، في أية لغة كانت، ليس الوقوف في وجهها بل حتى إلى جوارها" (3).
لقد ظهرت محاولات سابقة لقضم اسم الهايكو في أمريكا وفي البلاد العربية من بوب هايكو العم سام إلى هكيدة صحراء العرب، ولكنها منيت بفشل ذريع. والملاحظ أننا نعيش اليوم محاولات يائسة- باءت بالخيبة والانكسار في مهدها- تهدف إلى التغييب النهائي لاسم الهايكو من الملعب العربي، باسم التجديد أحيانا والتوطين والتأميم النهائي للنوع أحيانا أخرى، والزعماتية لقيادة فتوحات فاشلة في نمط عصي على أي محاولة لمسخه ولو من داخل اليابان نفسه. والمرجح، من خلال استقراء السياقات وواقع تطو الهايكوعربيا، أنها نزعة شخصانية فردية لا تقوم على مسوغ بحثي ونقدي، الهدف منها إثبات تفرد ووجود ولو بإتيان ما لن يصدقه عاقل ولو كان من نفس القبيلة. ومن الغريب واللافت أنه، لا أحد في العالم ينافسنا في هذا الفتح الهايكوي الفريد. ما يجعل المنطقة العربية، مرة أخرى، أضحوكة في أوساط الهايكو العالمية. في هذا الصدد يقول الهايجن الراحل بريندون كينت) وكان متابعا لما ينشر في الاندية العربية) ملمحا لمحاولات تهريب/ تغريب الهايكو تحت مسميات قداسة اللغة وقومية الانتماء: « إن قبولنا تمامًا لعزل البلد الأصلي عن البلاد الأخرى هو بالضبط ما سيدفع الهايكو في النهاية إلى العمل تحت الأرض مرة أخرى، في الوقت الذي ينبغي أن يكون الهايكو تجمعًا اجتماعيًا لشعراء العالم يتيح كسر قيود الحدود ومداواة جروح العالم في سلم ووئام. وأعتقد أن هذا هو الجوهر الحقيقي للهايكو اليوم" (4).
مما سبق، يجعلنا نجزم بأن عملية قرصنة الهايكو تبدأ
بالسطو على الاسم واستبداله بآخر غريب في أفق عزله عن بلد النشأة ومن تم مسخه
لخدمة أغراض شخصية وتجارية في طبع الورق وبيع أوهام الهايكو لمن يومن ويحلم بالوهم.
وراينا كيف تزف كتب القصيدة التصويرية في صحراء قاحلة وفارغة من النقاد، وبذلك
يكون دعاة التصويرة قد قدموا أكبر خدمة على طريق تطوير وتوطين شيء غير موجود في
الأدب العربي كبديل للهايكو.
الهايكو ثقافة ونظام،
هو نتاج تطور كبير وعميق في الذائقة والشعرية والفنية في البيئة اليابانية التي
أنتجته. وإذا كان من "توطين" عربي أو غيره،
فينبغي أن يكون في إطار ضخ المكونات المحلية طبيعية كانت أم ثقافية واستبعاد
العناصر الغريبة/ الدخيلة مع الالتزام بمقومات النوع: المشهد الملموس، الإيجاز،
اللغة المتداولة في اليومي، البنية، الشعرية والجمالية، الإيحاء، العمق...
وفي ذات السياق، فالحفاظ على اللغة العربية، بحمولات المجاز والصباغة الأسلوبية والثرثرة وشيوع تداول ضمير المتكلم ضمن نسقها كعنصر يمرر الوجدان والعاطفة ونواح الذات الشاعرة، ستكون مدخلا لمسخ الهايكو على نحو التفافي، لأن النوع ينهض على لغة بسيطة تنفلت من عقال اللفظ الغريب والمنمق من الكلام وقداسة الكلمة. على أن مربض العنتريات اللغوية وبهلوانيات المحسنات اللفظية والأسلوبية هي الصورة الشعرية التي تشكل العمود الفقري للشعر التقليدي والحديث.
ولإن بات الناس اليوم أكثر اقتناعا بتسمية الهايكو بكلمة "هايكو" فقط دون إضافات، فلست من الذين يميلون لإرفاق كلمة "قصيدة" بالهايكو بالنظر للبعد التاريخي لمصطلح القصيدة وتداعياته على خصوصية الهايكو كفن قائم الذات، وليس تحت عباءة الشعر كما يتمسك كثيرون. وقد تفيد كلمة "قصيدة" بناء متكاملا يتميز بالطول، بيد أن الهايكو يشكل أيضا وحدة منسجمة كاملة ولكنها تتميز بالقصر. وإذا كان ولا بد، فالأولى استبعاد لفظ "قصيدة" على نحو تام للأسباب التي ذكرناها، مع إمكانية تداول كلمة "مقطوعة" في إشارة إلى الإيجاز والتناغم الداخلي والوحدة التي تميزها.
لهؤلاء الذين ينشطون في إطار أجندة تخدم مصالح ضيقة تصل إلى حد محو اسم الهايكو وفصله عن أصوله اليابانية نقول: الهايكو كينونة بمرجعيات تاريخية وثقافية يابانية، غير أنه بات ممارسة بأبعاد فنية وجمالية كونية. والهايكو أكبر وأعمق بكثير من مجرد مشهد أو تصويرة تشكل منطلقا لتأليفه.
وعليه، فلن تستطيع أية تسمية مهما برق
لمعانها من التشويش والبهتان من طمس الاسم الأصل، فبالأحرى تحييد النوع ولو بتحالف
جماعة القصيدة وصناع التصويرة.
---
(1)
نوع ابتكره واستقل به المعلم الأول ماتسوو باشو (1644-
1694) عن غيره من الشعر والمقاطع والوجيز.
(2)
اسم وضعه ماساوكا شيكي (1867-
1902)، ويعتبر أبا للهايكو الحديث.
(3) من حوار أجريناه ونشرناه في مجلة هايكو العالم، عدد 0 خريف 2024 مع محمد عضيمة، وهو شاعر وجامعي سوري يقيم ويدرس الثقافة العربية باليابان، ترجم عديدا من دواوين الشعر والهايكو
من اليابانية إلى العربية،
(4)
بريندون
كينت (1958- 2024)، هايجن وناقد بريطاني نشر في مجلات مرموقة وحاصل على عدة جوائز،
من مقال مطول نشر بفضاء وموقع ومجلة" هايكو العالم Haiku
World" في 14 دجنبر 2024بعنوان: منهجية
التعليق وقراءة الهايكو