![]() |
محمد بنفارس- المغرب |
الهايكو:
من شعرية
الموضوعات إلى شعرية المناخات المشهدية*
محمد بنفارس- المغرب
لا أحد يجادل اليوم بأن الهايكو ليس علبة لتسجيل الوقائع أو عرض الأخبار أو التعبير عن مواقف (ثقافية، سياسية، دينية...) أو تأريخ الأحداث، أو التحليق في القصور العاجية أو السماوات العالية.
بذلك تكون مهمة الهايجن هي إنتاج الشعرية والجمالية انطلاقا من تجارب وملاحظات يومية ومكابدة شخصية. ولذلك لا داعي للتأكيد، من جديد، بأنه ليس من الهايكو في شيء الزج بالإيديولوجيا أكانت صريحة أو مقنعة، أو بالتقارير الإعلامية والاستخبارية والحربية تحت ذريعة: كل المواضيع تصلح للهايكو. كما أن التعاطف والتضامن لا ينبغي أن يكونا مطية لتخريب النوع بإنتاج أي شيء تحت يافطة الهايكو بدعوى التضامن الإنساني وإسناد القضايا الكبرى.
إن التعبير عن
الرأي وإعلان المواقف والإسناد والتضامن له مجالاته وله منصات ووسائط تعبير أخرى كثيرة. وينبغي أن نقتنع
بأن الهايكو، لطبيعته الموجزة ولماهيته الجمالية والفلسفية، لا يمكنه أن يسع كل شيء، وإلا
بات جريدة محلية تهتم بالصغيرة والكبيرة، أو مكبا عشوائيا لكل شيء.
فالهايكو،
بالمعنى الذي نتحدث عنه وكما نفهمه، هو ما يمكن تذوقه عبر «شعرية المناخات
المشهدية" في مقابل "شعرية الموضوعات" التي
سادت في الشعر كما نعرفه قديمه وحديثه. من هنا، فإن تكريس هذه الشعرية الجديدة
كواقع جديد يستطيع إحداث خرق في الذائقة الجمالية، لا بد له أن
يمر عبر الانتقال من شعرية الموضوعات إلى شعرية المناخات المشهدية. ما يكرس مسافة
أخرى بين الشعر والهايكو، إذ لا يكفي الموضوع أو الغرض أو المقصد أو التيمة، بل لا بد من
توفر عنصر الجو أو المناخ الذي ينتجه الهايكو بما يعتريه من وجدان وأحاسيس انطلاقا من الخبرة الملموسة وليس من الصور الشعرية المتخيلة الناتجة عن التدليس المجازي والصنعة اللغوية.
في التالي،
نورد نصوصا لهايجين مكرسين عالميا ومنهم أساتذة مؤسسون، وأتساءل عن إمكانية الحديث
عن غرض بعينه أو موضوع محدد في نصوصهم:
1.
ماتسو باشو، هايجن
ياباني مؤسس الهايكو (1644- 1694)
مطر من الأزهار
عبثا يبحث غراب
عن عشه
-
مبتهجا
كان
ما
أتعسه الآن
قارب
الغاق!
-
صوت
وابل البَرَد،
أنا
كما كنت سابقاً
كتلك
البلوطة الهرمة!
-
وقواق،
عبر
أيكة الخيزران الكثيفة
يسيل
ضوء القمر
-
بركة
قديمة
قفزة
ضفدع
صوت
الماء
-
على
غصن جاف
حط
غراب وحيد
مساء
خريفي
-
مسافر عليل،
تجتاز أحلامي
حقول الأعشاب الذابلة
2.
إيسّا، كوباياشي ياتارو، هايجن ياباني (1763- (1827
طائر
الوقواق يصرخ
من
أجلي، من أجل الجبل،
بالتناوب.
-
الجبال
التي رآها
أبي
أيضا
في
عزلته الشتائية...
-
مسقط رأسي
في كل قطرة
من قطرات الندى. (1)
3.
بوسون يوسا، هايجن ياباني (1783-1716)
على
ناقوس المعبد
حطَّت
فراشة،
تنام
مطمئنة!
-
الجو
يلمع،
طيران
باهت
لحشرة
مجهولة!
4.
ماساوكا شيكي، هايجن ياباني (1902-1867)
بعد
قتل
العنكبوت،
كم أشعر بالوحدة
في
برد الليل!
-
قرية
جبلية،
تحت
الثلج المتراكم
صوت
الماء!
5.
بانيا ناتسويشي
(هاجن ياباني معاصر)
وأخيرا لا دار له
بين أسراب الحبار
البابا الطائر. (2)
-
عبوة بلاستيكية
تزحف فوق الأرض
طيران البابا الطائر. (3)
-
صوت غناء قادم
من قرى الطين
البابا الطائر في السماء. (4)
نخلص إلى أن
النصوص أعلاه، وأخرى عديدة لكبار الهايجين المؤسسين واللاحقين والمجددين، لا تهتم بموضوع
معين أو غرض شعري محدد بمفهوم أغراض الشعر التقليدية، وإنما تحيل إلى مناخ مشهدي (يستنفر
الحواس) بمنسوب من الغموض الجمالي وتشابك العلائق بين مجموع العناصر التي تنتج
الهايكو كأقصر نص بين فنون القول، وبين النص ومؤلفه والمتلقي. على
أن الوجدان مكون حاسم في هذه النصوص، ويصعب تصور هايكو خال من الوجدان، بل يعتبر
الوجدان معبرا لا محيد عنه إلى المناخات المتداخلة والعميقة من الإحساس والجمال والتأمل
والإدراك.
وقد نذهب إلى
اعتبار مفهوم "شعرية المناخات المشهدية" ( أي تلك التي منبعها الململوس بواسطة الحواس) معيارا أساسا لتذوق وقياس أصالة
الهايكو. فالتذوق يكون بتوفر نص به مناخ بشعرية وجمال ووجدان. دون ذلك، سنكون
بواقع نص إخباري أو وصفي أو سردي او حجاجي أو أي شيء آخر.
_____
*مجلة هايكو العالم (ص 49-50)
(1) بريد الهايكو الياباني، إيسا
كوباياشي، ترجمة وتقديم محمد عضيمة،
دار التكوين للتأليف والترجمة والنشر، سوريا، طبعة أولى 2019.
(2)،(3)،(4):
من ديوان: البابا الطائر في السماء، بانيا ناتسويشي، Ban'ya Natsuishi (شاعر ياباني معاصر) ، من ترجمة وتقديم، محمد
عضيمة، منشورات الموكب الأدبي- وجدة، 2016.