![]() |
محمد بنفارس- المغرب |
تقديم وترجمة: محمد بنفارس
الهايكو
هو هايكو وفقط
1/ نحو ثقافة هايكوية واعية
أعترف أن ما سيتبع سيجر علي غضب عشاق الشعر وحنق أمة الشعر وطابور
المجاز والواقعين تحت مخدر ألاعيب اللغة. غير أن الفرق بين الشعر والهايكو ليس
مسألة مشاعر أو مواقف أو انتماء أو لغة أو ثقافة أو ردود أفعال واصطفاف.
من نافلة القول التذكير بأن الشعر الوجداني (Poésie lyrique) صنف من أصناف الشعر (Poésie) له علاقة بمشاعر وعواطف الإنسان، ويتمحور حول الحالة الوجدانية للشاعر
وتقلباتها من حب وكره وفرح وحزن وحماسة وفخر ورثاء وهجو ومدح...
وما يميز الشعر الغنائي والشعر عموما- بكل أصنافه وأطيافه ومراحله
التاريخية- أنه لا يكتفي بالتفاعل مع موضوعات محددة ويعكس أجواءها بصدق، بل يعمد
إلى صباغة الأشياء تبعا للحالة الوجدانية للشاعر: فيصير القمر أزرقا والليل موجا
والشمس نارا والمدامة جنة والحبيبة خلاصا والأندلس جنة مفقودة... خلافا لما هو
عليه الحال في الواقع. ما يعتبر فرقا جوهريا يفصله عن الهايكو الذي يتفاعل مع
الملموس والمحسوس دون أدنى تدخل في ماهية الأشياء ومجريات الأحداث. وهذا لعمري التنحي
والصفاء الخالص.
وبهذه المناسبة، يحلو لي أن أكرر أن الهايكو ليس قصيدة لارتباط
القصيدة تاريخيا ووجدانيا في أذهان الناس بالشعر. ومن يربط الهايكو بالقصيدة أو
الشعر (كقول قصيدة الهايكو أو شعر الهايكو أو الهايكو شعر)، فإما مسايرة أو بغرض
تقويض استقلالية هذا الفن وربطه ربطا بذائقة ماضوية لم تجرؤ أو لم تستطع التحرر من
ذائقة مستحكمة ومن موروث الشعركما نعرفه قديمه وحديثه.
الهايكو هو هايكو بأدواته الخاصة. لا أكثر ولا أقل. أي بمعنى آخر: هو
شيء مختلف عن الشعر.
الفقرة التالية، التي سنعرضها عليك أيها القارئ الكريم، تذهب أبعد بكثير
(من الإيجاز واللغة والمجاز وفوارق أخرى ثانوية) وتسلط الضوء على نقطة غاية في
الدقة والأهمية، ليتضح بأن الهايكو ليس نتاجا نابعا من الداخل، بقدر ما هو تفاعل
مع الأشياء في الخارج كما هي وكما تقع. بل هو فعل موجه للغير ولا يصب في مصلحة أنا
الهايجن كما يحصل لدى الأنا الشاعرة والغنائية الضيقة التي تصبح مركزا للعالم،
بحيث هي من يصنع العالم، ويكون هذا العالم - في هذه الحالة - تابعا لها ومصبوغا بطلائها
حسب ظروفها النفسية والاجتماعية والاقتصادية..
2/
الهايكو ليس "قصيدة غنائية"، وليس "شعرا"
نحو أريج البرقوق
أشرقت الشمس فجأة
على الطريق الضيق للجبل
_____ ماتسوو باشو (1)
" الهايكو ليس "قصيدة غنائية"، وليس "شعرا". ومع ذلك، فإن غياب تلك الباطنية الذاتية لا يعني نقصا. بل إنه يسمح للأشياء من أن تتألق انطلاقا في كونها كذلك. إن غياب الطابع الداخلي/ الباطني يمنح الهايكو قدرًا معينًا من الود. فليس من الوارد تأليف قصيدة زن بنجاح إلا في لحظة نظرة ودية/ متعاطفة تتوقف فجأة عند الأشياء، بل - وأكثر من ذلك - ترى في عمق الأشياء؛ أي في تلك اللحظة الاستثنائية التي تفرغ فيها الذات نفسها، وتنمحي، وتمتلئ بنور الأشياء، في كيانها-هكذا ببساطة. كان باشو يقول: الروح ليست من الداخل، بل من اللطف/ الود/ الغيرية" (2)
وفي السياق ذاته، تقول دكتورة بشرى البستاني(3) في مقال نشر لها بموقع هايكو العالم H W: الهايكو فن لغوي ذو خصائص خاصة به كأي فن لغوي آخر،" وتضيف موضحة "هو هايكو ولد في اليابان"، أي ليس شيئا آخر باسم آخر، ولقطع كل لبس أو خلط مع الشعر تؤكد " وهو ليس شعرا، فاللشعر خصائص تميزه هو الآخر عن مجمل الفنون اللغوية".
أما دكتور محمد عضيمة (4) فلا يتردد في كل مناسبة من مهاجمة الشعر والشعراء دون مواربة أو أن تأخذه شفقة، ووما قاله في حوار أجريناه معه ونشر في موقع ومجلة هايكو العالم H W : "الهايجين من لحم ودم، وبحواس خمس متيقظة باستمرار، بينما الشاعر ذهن فقط ويشوش حواسه لصالح الذهن." ويضيف عضيمة مقرعا الشعراء وموضحا الفروق المهولة: "الشعر للبكائيات والمراثي والتشكي، وصب جام الغضب على هذه الحياة والوجود، بينما الهايكو لتظهير جماليات هذه الحياة تفصيلا تلو تفصيل وجزئية تلو أخرى. أليست هذه فروقا جوهرية!!"
على سبيل الختم
نخلص إلى أن الهايكو هو هايكو انبثق عن ممارسة وتقليد شعريين قديمين عرفا تطورا عبر العصور المتلاحقة، هو نمط بأدواته الخاصة من لغة وبنية وارتباط بالمحسوس والجزئيات التي تميزه عن شعر المطولات والبكائيات والنحيب وبهلوانيات اللغة والاشتغال الذهني والخيال المحلق في السماوات والماورائيات. ليس فقط عن شعر اليابان، بل الشعر عامة كجنس أدبي بمقوماته.
عندما يقول البعض: الهايكو شعر، فهل لنا أن نقول: الشعر هايكو؟ لا طبعا. فالغاية إذن من نسبة الهايكو للشعر، بقصد أو دونه، هي ابتلاع الشعر للهايكو. ما يعني في نهايو المطاف، أن مروجي هذا القول، بإدراك أو دونه، يعيدون الهايكو إلى ما قبل باشو واللاحقين من المعلمين الكبار، أي يرجعونه إلى بيت الطاعة الكبير: الشعر. ما يعني اختصارا أن الهايكو عاببر سبيل ودون هوية خاصة به ومكانه هو حضن الشعر كجنس عظيم وغطاء ضامن وآمن له من الضياع والتلف.
الهايجن ملتصق بالأرض، بينما الشاعر معلق في السماء. فهل من مجال للمقارنة بين من يمشي على قدميه ومن لا يحس بهما؟
___
هوامش:
1)
شاعر ياباني (1644- 1694) المعلم الأول ومبتكر الهايكو.
2) بيونج تشول هان: هيجل والسلطة، مقال عن اللطف، افتتاحية هيردر، برشلونة، 2019
3) أكاديمية، جامعية وناقدة وشاعرة من العراق لها مؤلفت عديدة في النقد والشعر والدراسات الأدبية، من مقال نشر في: https://www.haikuworld24.com/2024/11/blog-post_19.html: "
4) أستاذ جامعي باليابان وناقد وشاعر له مؤلفات في الشعر والنقد الأدبي: من آخر تصريح له في حوار نشر هنا بموقع ومجلة هايكو العالم H W https://www.haikuworld24.com/2024/11/blog-post_16.html
شكرا على هدا المنشور الرائع و التوضيحي .مع احترامي و تقديري geranium slimou
ردحذف