![]() |
محمد بنفارس- المغرب |
الصمت والفراغ في الهايكو
نحو شعرية المناخات
المشهدية
الهايكو نوع لا يتأتى بالسرد ولا بالوصف
الإنشائي، ولا بالتصوير الميكانيكي ولا حتى بأسلوب الشاسي (1)
(shasei) وحده يمكن أن يكون مقنعا لتأليف هايكو جيد.
من أساسيات الهايكو لحظة الصمت أو الفراغ في
صلب الهايكو. لحظة تجعلنا نتأمل في سكون، ونغوص من أعماقنا في عمق اللحظة وما
بعدها.
ويعتبر المعلم ماتسوو باشو (2) أول من وضع أسس هذه التقنية انطلاقا من
هايكو الضفدع وما تلاه من نصوص خالدة، بل بنى عليها مشروعه الشعري منذ أن وضع لبنة
الهايكو كنوع مميز ومستقل عن باقي الأنواع. وتتلخص هذه الخبطة الإبداعية الباشوية
في جعل الهايكو ينهض على توليفة من صورتين منفصلتين نحوا ومعنى، أو ما يطلق عليه
التوليف أو التجاور (
التوري- أواسيه (toriawase)، ما
يدع فراغا بين الصورتين يتيح وقفة استغراق هادئ ومتفاعل في محاولة لإيجاد علاقة أو
علاقات بين الصورة1 والصورة 2. وهي لحظة تأمل عميقة يحصل فيها تواصل عميق مع النص
ومع صاحبه عندما نتشارك معه وجدانيا نفس الخبرة.
على أن الإخلال بهذه الخاصية يجعل النص
باهتا وفاقدا لواحدة من أهم مقومات الأصالة والشعرية والجمالية في الهايكو والتي
تفضي لما نعتبره شعرية المناخات. على أن متعة شعرية المناخات لا تحصل عند عتبة نص
سطحي لا يذهب أبعد من منطوقه، بل ببنية توليفية مدروسة المسافة بين شطري الهايكو
تفرض لحظة صمت وتأمل تجعل القارئ يغوص في الطبقة/ الطبقات غير المرئية من الهايكو
تقوده إلى اختبار أجواء من التفاعل الوجداني والسحر الشعري والجمالي تتعدد وتتشابك
حسب درجات الرجة والاهتزاز عند المتلقي. ونستشعر شعرية المناخات عند الإحساس بالكآبة
أو الشجن أو الحزن الشديد، أو الوحدة والعزلة، أو بالخفة والفرح، أو الجمال
والسحر، أو مرور الوقت، أو ضعف الانسان وتحول الأشياء، أو المحبة والحب، أو
التعاطف والتضامن.....
نخلص إلى أن الهايكو ليس شكلا ثلاثيا أو صفا
من الكلمات وحسب. بل أيضا فراغا وصمتا مركزيا يجمع (بكسر وتشديد الميم) الأجزاء
ويمنح قيمة فنية للبناء ويفسح مجالا واسعا للتفاعل والتأمل حسب مستويات القراءة
وجرعة التلقي.
من جانب آخر، فبعكس ما يقول به بعض صناع
القفشات وكتبة الابتهالات الصوفية ومطلقي
البرقيات الإعلامية، فالهايجن ليس، بكل تأكيد، طفلا ولا يمكن أن يكون كذلك، ولا
يكتب بعقل ولا بوجدان طفل لأنه ببساطة ليس طفلا مهما ادعى أو ألبس من رداء الطفولة،
بل الهايجن يؤلف ليس فقط انطلاقا من التجربة المعاشة لحظته وحسب، بل باعتماد كل
الخبرة التي راكمها طيلة مساره ومشاهداته ويومياته وأسفاره، فالتراكم والدربة
والموهبة وتأمل عمق الأشياء هي التي تصنع الهايكو الجيد، وليس ترديد بعض القوالب
الجاهزة والاسطوانات التي لا تعني شيئا.
وغني عن البيان أن ترديد بعض النصوص الصفراء
لا يجعل منها نصوصا مميزة أو فلتات خارقة بفعل الترديد الببغاوي والتجيير الساذج والدعاية
غير المهنية. فمحدد إعمال مفهوم شعرية المناخات المشهدية المؤسس على الصمت
والإضمار والإيحاء لكفيل بوضعها في الرف المناسب لركوبها على تدليس اللغة والمجاز
الفاضح والأنسنة المموهة والتشبيه الممركز وصناعة الوهم التي تجد تجاوبا لها فقط
لدى أصحاب ذائقة جامدة لم ترق بعد إلى مستوى ذائقة
الهايكو.
في التالي أورد نصوصا لباشو ولهايجن معاصرين
حيث الفراغ المركزي والصمت المحوري الذي يصنعه التقابل المدروس المفضي إلى أبعد من
الصورة الظاهرة ومنطوق اللغة، وبالتالي الغوص في متعة ما نعتبره "شعرية
المناخات المشهدية" التي بانتفائها يتسم الهايكو بالسطحية والسذاجة.
1.
ماتسوو
باشو:
مطر من الأزهار
عبثا يبحث غراب
عن عشه!
-
على غصن جاف
حط غراب وحيد
مساء خريفي
-
في بركة قديمة
يقفز ضفدع
صوت الماء
-
خلوة الشتاء
في عالم من لونِ واحد،
صوت الريحِ
2. تانبوبو أنيس، أندونيسيا، هايجن معاصرة مقيمة باليابان/ Tanpopo Anis-Indonésie
تواصل -
إوز في المستنقع
إوز في السماء
-
البيانو القديم
بدون أنامل أمي~
أوغل الخريف
3. فاتن أنور- هايجن معاصرة من فلسطين
شقوق يديها
تقطر زيتاً
بعد القطاف
-
ليلاً
مئذنة
وحيدة
جوار القمر
4. محمد إليلا- هايجن معاصر من المغرب
لوح
برايل
على
كلمة " نهد "
ترتجف يد الكفيف
5. بريندون كينت – هايحن معاصر من بريطانيا/ Brendon Kent- U.K
أوراق
متساقطة
التل
الذي
كنت
أتسلقه
-
في
حقل مظلم،
بلعمان
أبيض
يجمع الضوء
6. فرنسواز گابرييل- هايجن معاصرة من بلجيكا/Belgique Françoise Gabriel
آخر
الموسم
خطوة
خطوة..يعود
الشاطئ للطيور
7. روسا ماريا لوبيث الفارو- هايجن معاصرة من المكسيك/ Rosa Lopéz- Mexique
الورقة
الأخيرة
تصمد
في وجه
ريح
الخريف
-
شتاء
آخر
ما
زال دفء يدي أمي
في يدي
8. مريم لحلو – هاجن من المغرب
مطر مباغث
عند بابي
تختبئ زهرتان
-
بداية الربيع
من القرميدة الناقصة
يبزغ عصفور
9. جزال إفرو - هايجن راحلة من فرنسا /- France Gisèle Evrot
زهرة
الهندباء ~
في
يدي
هشاشة العالم
10. صلاح أبو عباس- هايجن من العراق
بعد
كل الذي حدث
إلى أين يعبر
جسر المدينة
11. جوال جينو دوفيفيي- فرنسا/ Joelle Ginoux Duvivier- France
فجر
صامت
أعشاش السنونو
الفارغة
12. عيسى ابركان- هايجن معاصر من المغرب
زخة ...
متمايلة
تقطر
سعفة النخلة
13. منى يوردان- هايجن معاصرة من رومانيا/ Mona Iordan- Roumanie
موجة
حر
زنابق الماء تغوص
حتى العنق
14. انجيولا انجليز – هايجن معاصرة من إيطاليا/ Angiola Inglese- Italia
سقوط
القمر-
على
الأرض بين الأوراق
كاكي
أخير
-
حيطان
بيضاء
في
قاعة الانتظار
ذاكرة فارغة
15. هيلين فونغ- هايجن معاصرة فييتنام/ فرنسا/ Hélène Fung- Vietnam
في
مهب ريح التوندراه
يرتوي
الأفق -
أتوق
للرحيل
16. شاهناز يوسف- هايجن معاصرة من سوريا
مطر،
يخترق
الغيم
شعاع
الصباح
-
سماء
غائمة،
عشب اخضر على
سطح بيت مهجور
17. ألفة كشك بوحديدة – هايجن معاصرة من تونس
مطر
خفيف
من جديد تجمعنا
مطرية
18. هدى بنادي – هايجن معاصرة من المغرب
غروب
خريفي
دوريان
على غصن
ينتظران
القمر
-
من
شجرة كمثرى
يشع
الضوء
بعد شتاء طويل
19. فاطمة الخولاني- هايجن معاصرة من العراق
تنهيدة
ربما
البتلة الأخيرة
لا
يحبها!
-
بائعة
الورد
الوردة الأخيرة
ليست للبيع
20. ناتاشا كارل بزنوف- هايجن معاصرة من فرنسا / France- N. K . Bezsonoff
على
جنبات الطريق
تتساقط
الأوراق
بلا
صوت
-
لون
الحور المذهب
بطرف
عيني
ألمس السماء
21. شهرة بوذيبة (أم وائل) - هايجن معاصرة من الجزائر
عالم
أبيض؛
طفل
يسند رجل الثلج
بالثلج
-
شتاء
قارس
بأشياء
فقدتها يذكرني
نصف قمر
22. فرانسواز موريس-
هايحن معاصرة من فرنسا/ Françoise
Maurice- France
صوت العاصفة
معاً يحلقان
زوج سمام
-
جز متأخر
تتمايل
شقائق النعمان
-
23. لبنى الأوركيد
(لبنى الشاط) هايجن من المغرب
مازالت متماسكة
سحابةٌ عبرت
الطّاحونة الهوائية
-
بِلا عُنوانٍ
الأوراقُ التي يَحمِلها
حذاءُ سَاعِي البَريد
24 خديجو وناس- المغرب
عرس قروي-
تحت حوافر الخيل
تقضي شقائق النعمان!
25 مليكة البوزيدي- المغرب
صيف حار
تظلل عمامة
بيضاء
رأس عجوز
محمد بنفارس - المغرب
_______
(1) ماتسوو باشو: (1644- 1694)، شاعر ياباني مؤسس الهايكو.
(2) شاسي (Shasei) مفهوم يقوم على تجديد الهايكو في مقابل
المدرسة الكلاسيكية المرتبطة بباشو، ويقوم الأسلوب على وصف الطبيعة بموضوعية وبلغة
بسيطة. ولقد ابتدعه الشاعر ماساوكا شيكي (1867- 1902) والذي بوأه هذا الابتكار مكانة أب الهايكو الحديث في اليابان.