سامح درويش* |
نقرأ من حين لآخر بعض تجارب وتمرينات قراءة ونقد الهايكو
تحاول أن تقترب من النص وتغوص فيه
انطلاقا من عناصر ومكونات جنس الهايكو
في أفق التأسيس لقراءة الهايكو في النقد العربي
كنت دائما ولا
زلت أعتبر الهايكو اقتراحا جماليا كونيا مكتفيا بتلقائيته وسحر بساطته وخفّة ظله
وليس بديلا أو منافسا لأي نوع شعري آخر، بل من شأن وجوده في مشهدنا الشعري المغربي
أن يرفد ويثري شعريتنا بعناصر ومكونات جمالية جديدة، وأن يساهم بقوة في إعادة
مُساءلة أدائنا ومنجزنا الشعري بما يمكنهما من التحليق في سماء الشعر العالمي
والالتحام بالتجارب الشعرية التي استطاعت أن تحقق التفرد الإبداعي، ويساعدهما على
تحديث أدواتهما ورؤاهما الفنية والتخلص من عاهة التمركز حول الذات والاكتفاء بما
أنتجته شعريتنا من قوالب وأشكال وأدوات فنية وتطريزات بلاغية. ذلك أن الأشكال
والأنواع الفنية والإبداعية هي حصيلة وملك جماعيين للإنسانية كافة، ولا يمكن لأحد
أن يدعي نقاء هذه الأشكال والأنواع وحصرها في مجال جغرافي دون غيره، كما لا يمكن
لأحد أن يقف في وجه ترحالها في الزمان والمكان مثلها مثل الإنسان الذي ينتجها
ويحملها، بل مثل باقي الكائنات الحية التي يمكنها أن تتنقل وتتكيف وتتحول لتواصل
حياتها واستمراريتها.
كما أنني كنت
دائما ولا زلت أعتقد أن الهايكو هو أن نعيد اكتشاف ما نعرفه وما ألفناه من زاوية
نظر جديدة، هو أن نستطيع القبض على هبّة ريح بُرهة ثم نطلقها إلى هبوبها الأبدي،
هو أن ننجح في منح اللحظة الزائلة وجودا سرمديا، هو أن نتمكن من الاحتكاك والتفاعل
مع الطبيعة والمجتمع من حولنا من زاوية ظلت مغفلة، هو أن نكتب وندون بتلقائية
وبراءة طفل لكن بحنكة وخبرة شيخ، هو ذلك المطهر الذاتي للحواس من شوائب العادة، هو
أشبه ما يكون بالتماع عينيْ قطّ وسط الظلام، على الهايجن أن يُوفّق في نقلها
وإيصالها للمتلقي بما يعادل دهشة وجمالية وتلقائية التماع تينك العينيْن كما يحدث
على حين غرّة في الواقع، بل هو - يبدو لي أحيانا – أقرب ما يكون إلى طائر السّبد
أو صقر الليل الذي يحمل لون الأرض، هذا الطائر المتفرد الذي
كلما اقتربتَ منه واعتقدتَ أنك على وشك القبض عليه يطير أماما ثم يحط غير
بعيد عنك ليعطيك انطباعا مستمرا أنك قادر على القبض عليه، من غير أن تتمكن من ذلك
في النهاية إلا إذا حدثت أعجوبة ما .. لذلك فالهايكو يبدو لي مثل أعجوبة لا يمكن
أن تحدث كثيرا، ويبدو لي شاعر الهايكو/ الهايجن مثل من ينحت على الضوء لا تكاد
منحوتته تكتمل حتى تبدأ في النقصان.
ولما كان فن
الهايكو بكل تلك الأبعاد، ليصير في النهاية لحظة استنارة وتصير ممارسته مهارة
اقتناص تلك اللحظة الآنية في أبعادها الثلاثة. ولما كان في تشكّله اللغوي لا يشير
إلا إلى ما يشير إليه، فإن ظل تلك الإشارة ليس سوى بحجم الحقيقة بدلالاتها في
ثقافة معينة، بحجم الحقيقة فحسب وليس أبعد منها، وأيّ تمطيط لذلك الظل لا يعني إلا
المتلقي وحده، إذ أن ورقة توت تسقط لا تشير إلا إلى ورقة توت تسقط. ولما كان
الهايكو أيضا لحظة حسية ضد العادة الشعرية، وليس شطحة خيال أو مناورة مجاز، ولا
نزوة شعرية تتحقق بمضاجعة اللغة، فإنه يتوق إلى العودة بهذه اللغة إلى بساطتها
وبراءتها أي إلى ما قبل تهجينها بالمجاز. ولما كان الهايكو -اليوم -قد تبوأ موطئ
قلم في مشهدنا الشعري المغربي والعربي، واستطاع أن يثبت حضوره في هذا المشهد
باستقطابه لعدد هائل من الأصوات والأقلام خاصة الشابة منها، واستطاع أن يحظى
باهتمام عدد من الباحثين والأكاديميين، وأن يلفت انتباه عدد من وسائل ومؤسسات
الإعلام والنشر، وأضحى له نواديه وإصداراته، فإن الأمر قد أصبح يطرح تحديات جمة ويثير
أسئلة جادة حول كتابته وتذوقه وتلقيه وقراءته ونقده من داخل شعريتنا وثقافتنا.
أما بالنسبة
لكتابة الهايكو، فبعيدا عن تلك التمرينات الأولى التي يمكن أن يقوم بها أي هاو وافد
على الهايكو، تلك التمرينات المتسمة غالبا بالشغف والرغبة في اكتشاف الكون بوعي
جديد للحواس، وهذا في حد ذاته أمر إيجابي باعتبار أن الكتابة كيفما كان نوعها هي
حق مكفول لكل إنسان وبالطريقة التي يريد، وبعيدا عن ذلك الاستسهال غير المقصود النابع
غالبا من محدودية معرفة ضوابط هذا النوع الشعري وأسرار جمالياته وهو حال تقع فيه
حتى بعض الأصوات الشعرية المكرسة. بعيدا عن كل ذلك، فإن شاعر الهايكو المسلّح قبلا
بحس شعري وقّاد بالضرورة، ينبغي أن يكون واعيا بمقومات النوع الفنية وخصائصه،
مطلعا على أهم تجاربه، حاملا لسلوكياته ومغازيه، مدركا للحدود الفنية الفاصلة بينه
وبين أنواع الأدب الوجيز الأخرى المجاورة، محيطا بتقنيات بنائه، متوفرا على حواس مرهفة و أدوات
لغوية كافية بما يمكنه من إكساء لحظة الاستنارة الملتقطة من الواقع في حينها نتيجة
تأمل عميق ( الساطوري) بالمفردات المناسبة
بدون زيادة ولا نقصان وبالتكثيف اللازم ( الشيبومhttp://ي). كما
ينبغي للهايجن أن يكون متحكما- بهذا القدر أو ذاك - في تقنيات وجماليات الهايكو، من خلال البراعة في
التقاط اللحظة الحسية الآنية بدل الركون إلى المخيلة واصطناع لحظة خيالية، ومن
خلال تفادي قعقعات البلاغة و سطوة البديع من مجاز واستعارة وغيرهما لفائدة مفردات
وتراكيب بسيطة من شأنها أن تترك المشهد أو الموقف يعبر عن نفسه بنفسه من دون حشر
ظاهر للأنا كما لو كان الشاعر هو سيد
اللحظة، ذلك أن الهايجن الحق هو من يحلق في الأعماق، لكن على علوّ منخفض مثل يعسوب،
مما يجعل منه معرضا باستمرار للارتطام بتضاريس المجاز القاتلة ونتوءات الأنا
الأمّارة بالبروز والهيمنة على الكائنات من حوله.
في حين أن فرز وغربلة وتقويم ما
يتم إنتاجه داخل مشهدنا الشعري اليوم تحت مسمى الهايكو، قد أضحى مهمة ثقافية ملحة،
ذلك أن قراءة وتفكيك ونقد ما يُتداول في دائرتنا الشعرية من منجز تحت تصنيف
الهايكو هو القناة السليمة لتوفير المناخ الثقافي البناء، والكفيل وحده بتحقيق ذلك
التفاعل الجمالي المنتج بين شعريتنا وهذا النوع الشعري القادم عبر نسائم المثاقفة
الكونية للمساهمة في بناء سقف جمالي إنساني مشترك. وإن كنا قد بدأنا نقرأ هنا
وهناك بمشهدنا الشعري -اليوم-بواكير محاولات ومقاربات لقراءة ونقد الهايكو، فإنه
يمكننا القول إن أغلب هذه المحاولات لا زالت تلج مضمار نقد الهايكو من مداخل نقد
الشعر السيار وتتوسل مناهجه ومفاهيمه وأدواته، وتُسرف في التأويل والفذلكات
النقدية وتحميل نص الهايكو ما لا يحتمله، وتشقشق على سطح النص من دون الوصول إلى تفكيك
وتحليل عناصره والكشف عن بنياته وكوامنه وخباياه. وإن كنا أيضا نقرأ من حين لآخر
هنا وهناك بعض تجارب وتمرينات قراءة ونقد الهايكو تحاول أن تقترب من النص وتغوص
فيه انطلاقا من عناصر ومكونات جنس الهايكو، اعتمادا على تملك قسط من ثقافته
ومفاهيمه وأدواته وجمالياته، وهي تجارب وتمرينات يقوم بها في الغالب الهايجن
(شعراء /ات الهايكو) العرب أنفسهم.
ذلك أن قارئ أو ناقد الهايكو ينبغي بدءا أن
يعي بأن مداخل وقصديات شعر الهايكو ليست هي نفسها في الشعر عامة، وأن تذوق الهايكو
وجعل الآخرين يتذوقونه لا يمكن أن يتحقق بالاحتكام إلى المعايير والأدوات والمشاعر
ذاتها التي تستعمل في نقد الشعر المتعارف عليه بمختلف ألوانه، وأن الهايكو لا يعكس
فكرة بقدر ما ينقل مناخا متكامل الأبعاد والعناصر، كما ينبغي لقارئ وناقد الهايكو
أن يعي أيضا أن لنوع الهايكو معمارا فنيّا وصرحا من الجماليات لا يمكن الاستمتاع
بها وقيادة المتلقين إلى تلك المتعة دون امتلاك المعرفة بتقنيات النوع والقدرة على
تفكيك ذلك المعمار الفني وكشف ذلك الصرح الجمالي. الأمر الذي لا يمكن أن يتم إلا
بحيازة حد أدنى من شبكة المفاهيم والأدوات والمكونات والعناصر البانية للهايكو من
قبيل مفهوم لحظة الاستنارة أو يسمى بـ"الساتوري"، وهي اللحظة التي يصل
فيها فعل التأمل إلى ثمرته لينطلق وميض الهايكو مع ما يرتبط مع تلك اللحظة من حال
" الكانجا كو" أي حال التركيز والهدوء لحظة الكتابة، وعنصر
"الشاسيه" أي تشكّل الهايكو من لحظة مشاهدة ومعايشة وخبرة وليس من صناعة
تخييلية، ومكون " الشيوري" الذي يعكس ذلك التعاطف والانسجام مع
الموجودات والكائنات في الطبيعة والمجتمع
مهما صغر حجمها أو قلت قيمتها في نظرنا، وتقنية " الشيبومي"، أي
المهارة في الاستغناء عن المفردات التي يمكن لحذفها ألا يؤثر على جوهر النص، وعنصر
" سابي - وابي" أي مهارة
الإشارة وبناء علاقة بين مكون زائل، قابل للتلاشي والاندثار وعنصر أبدي سرمدي لا يتأثر بفعل الزمن ولعوامل المحيطة، وشحنة
الـ " أوارِه" ، أي مهارة الهايجن في تضمين نصه إشارة إلى حكمة أو خلاصة
وجود عميقة، وعنصر الـ " كيگو"
الذي يعني تضمين قصيدة الهايكو كلمة تدل
على الفصل إما مباشرة أو بالإشارة إلى قرينة دالة على الموسم. هذا، علاوة على تعرف
قارئ الهايكو وناقده على دلالات بعض العلامات البنائية الأخرى في نص الهايكو مثل
" الكيرجي" أو علامة القطع التي تفصل بين مشهدين على شكل وقفة تتيح لحظة
تأمل للمتلقي الذي ينبغي أن يجد مساحة لمشاركته في بناء الهايكو عبر ما يسمى بـ
" اليوغن"، أو الغموض الجمالي الذي يجعل من المتلقي طرفا في تركيب قصيدة
الهايكو، ومثل تنحّي الهايجن وعدم ترك أناه تحتل مركز وبؤرة النص، ليجعل المشاهد
والمواقف تعكس نفسها في اللغة بتلقائية وبساطة ، إضافة إلى تبيّن متناول قصيدة
الهايكو بالنقد والتحليل هل النص موضوع القراءة هو قصيدة هايكو بمقوم الطبيعة اللصيق به أم هو
قصيدة " سنريو " أي تلك القصيدة
التي تحمل بناء الهايكو لكنها تتناول مشاهد ومواقف من المجتمع وحياة الناس ، وتبين
هل نص الهايكو موضوع النقد هو من نمط
هايكو المشهد الواحد أم من نمط هايكو المشهدين أو ما يسمى بـ"
التوريوازه". فعند تفكيك هذه العناصر
وغيرها من المكونات الجمالية للهايكو يمكن أن نغوص في أعماق النص ونصبح قادرين على
نسبته إلى جنس الهايكو أم إلى غيرها من أشكال الأدب الوجيز، كما يمكن أن يصبح قارئ
الهايكو فعالا في تأسيس ذلك التلاقح المثمر بين شعريتنا وهذا النوع الفني.
هذا، وباعتبار
الهايكو شعر حواس ومناخات وعلامات وإشارات، يمكن لقارئ الهايكو أن يستعين بأدوات
ومفاهيم الدرس السيميولوجي وبما تتيحه السيمياء أو علم أسرار الحروف كما سماه ابن
خلدون من إمكانات لتحليل ظلال الثقافة والمجتمع في الأبنية اللغوية. غير أن كل ما
تم تقديمه في هذه الورقة المختصرة من أدوات ومفاهيم ومداخل لتحليل نص الهايكو ونقده
لا يمكن أن يصنع وحده وبشكل ميكانيكي ناقدا متخصصا في الهايكو، بل هي مجرد أدوات
لا بد منها، يستثمرها قارئ وناقد الهايكو مؤزّرا بمعرفته وحساسيته الجمالية ومهارته
في سبر أغوار النص المقروء، وإحاطته بهذا القدر أو ذاك بنوع الهايكو وثقافته وتجلياته.
كما لا يصح اعتبار هذه الشبكة -غير المكتملة -من الأدوات والمفاتيح من قبيل الوعظ
النقدي بقدر ما هي مساهمة من ممارس للهايكو في أفق تأسيس نقد مغربي وعربي للهايكو،
قائم على خصائص وجماليات النوع نفسه وليس من حقول شعرية أخرى مغايرة.
*هايجن
معاصر رئيس هايكو موروكو- المغرب