د. أحمد ملكو* |
لتحليل النص الهايكوي
لابد من فحص العناصر الهيكلية مثل طول النص قصره أي معماريته والتقنيات المستخدمة
فيه، وعلامات الترقيم، أو الصورة أو المشهد الذي تشكّل عندنا بعد قراءة النص؛ فضلا
عن الايجاز والفنون البلاغية المستخدمة .... والخ، كل ما ذكرناه له علاقة بتحديد
جنس العمل الأدبي، وهنا نحن بصدد قصيدة الهايكو التي انتشرت مؤخرا وجلبت معها ردود
أفعال وآراء نقدية ولاسيما في مجال تحليلها أو ما تسمى بالمقاربات النصية.
إن دواعي كتابة هذه السطور هو اللغط أو الإشكاليات التي حلت على تحليل النص
الهايكوي بعد نشر بعض القراءات النقدية لمجموعة نصوص هايكوية في الأندية العربية
وصفحات الفيسبوك، هنا رد وهناك ردود، هنا إشادة وهناك كسر وتهكم، مما أفضى الى احتدام
القراء ومحبي الهايكو فيما بينهم ليجدوا أنفسهم في متاهة لا خروج منها ولا مفر.
برأي المتواضع أرى أن ما يحصل الآن من فوضى هو نتيجة عدم دراية بعضهم
بتحليل النص الأدبي وضوابطه وخلو بعضهم الآخر من صفات الناقد الواجبة توافرها،
وكذلك المنهجية النقدية التي يمكن الاعتماد عليها فضلا عن أدوات التحليل وآلياته،
من المعروف أن لكل منهج نقدي آليات يمكن للناقد الاستعانة بها في تحليل النص الأدبي
مهما كان جنسه، أما ما نسمية بالقراءات النقدية أو المقاربات للنصوص الهايكو-والتي
كثرت في يومنا- فتختلف اختلافا كبيرا عما كان سائدا في التحليل المنهجي مثل
التحليل البنيوي أو السيميائي أو البيئي أو التفكيكي، لماذا؟ لأن المقاربات التي
تم نشرها مؤخرا هي قراءة شاملة على وفق رؤية نقدية للناقد الذي يعد قارئا في أصله،
مع مزجها بشيء من الذاتية التي تعتمد على خلفية الناقد الثقافية ودرايته بفن
الهايكو، ومن المعروف أن الذين يقومون بهذه المقاربات هم كتّاب للهايكو وقرّاء له،
ومن المسلم أنهم يحملون ثقافة تكفيهم للتعرف على شروط الهايكو وخصائصه وتاريخه
ومدارسه المختلفة فضلا عن رؤية نقدية متأتية عن طريق (القراءة والتلقي) التي غيرت
عقل وفكر الناقد نحو الترقي وإجادة مقاربات لايحدها حدود كونكريتية، وقد لا تتشابه
مقاربتان لنص واحد لاختلاف العقول والأفكار والأنفس التي تتمثل في ثقافة الناقد.
لازلت أقول أن الهايكو
العربي لازال يتراوح في مرحلة التجريب، وما يوصل هذا الفن الى برّ الأمان ويؤطره
في الأدب العربي هو نقده ونقد نقده على أن لا ينخرط الأطراف في تيه المعمعة وتقديس
الذات ورفض الآخر على حساب هذا الفن الجميل، هذا الضيف الياباني الرقيق. وكل
المقاربات بمحاسنها ومساوئها ستكون مادة دسمة لمن أراد دراستها بحيادية وموضوعية.
لقد ودّع الهايكو وطنه
اليابان وأصبح في أيدي من يتنفسون شعرا، فما الذي نخشاه؟ ما نخشاه هو الخلاف في كل
ما ينمو ويتطور، المهم أن نكون على خلاف، والأهم أن لا يجتمع لنا كلمة ولو جئنا
بثغرة أرفع من شعرة رأسنا. نعم أختلف مع فلان في كذا ولكنني لا أعمد الى كسره ولا
الى رفضه، بل أعمد الى تصويبه وتعديله على وفق مسلمات الموضوع.
يعتمد كل نص أدبي على
موضوع أو تيمة وهكذا الهايكو، والتيمة بناء موحد لجمل النص المتشابكة تركيبيا
ودلاليا بواسطة فكرة مهيمنة معنويا. ومن ثم، فإن الوظيفة البنائية للتيمة تتمثل في توحيد جمل النص المفردة وتغريض
الإبداع. وكل نص يتوفر على موضوع معين أو غرض ما فهو نص مقبول عقليا. ومن ثم،
تنطبق عليه عمليا صفة المقبولية ومشروعية قراءته ونقده، وأما النص الذي يخلو من
وجود غرض معين فهو نص مختل عقليا وناقص دلاليا لا يمكن عده نصا إبداعيا أو أدبيا.
ولكن ما يخلق الاشكال في مجال المقاربات الهايكوية ونقد المقاربات هو إصرار بعض الأخوة
على تجنيس الهايكو وتحديد وجوده من عدمه بشروط عربانية-نسبة الى عربية و يابانية-
مع أن اليابانيين أنفسهم–وأنا على اتصال دائم بهم- قد تغيرت نظرتهم للهايكو الذي
كتب قبل مائة عام والهايكو الذي انتشر في كل بقاع الأرض، فالأهم عندهم الآن هو
وجود تيمة لنص كان يملأ التعقيد كتابته في الأمس، أما اليوم فتحولت التيمات الى
الحب والحرب والطيف والأبنية والمدن والفضاء والمجهريات...الخ مع تغيير شبه جذري
في البناء الكتابي للنص مثل: التحول من السطر الواحد الى ثلاثة أسطر واسقاط شرط
المقاطع الـ(17) وعلامات الترقيم اليابانية واستخدام الفنون البديعية وهلم جرا.
فالهايكو نص شعري أجنبي وافد، قصير جدا، يكتب
بثلاثة أسطر، تشكّل في مجموعه جملة مفيدة تعبر تعبيرا شاعريا عن مشهد أو صورة
تلتقطها عين الشاعر من دون غيره، وله شروط فنية تشمل الشكل والبناء الخارجي وأخرى
موضوعية تشمل الصورة وما يتعلق بها من التركيب والتجاور والدهشة إلخ. وللهايكو
خصائص ومميزات خاصة به، ذكر منها الناقد ريو يوتسويا خمسا منها، فالميزة الأولى:
هي سهولة ظاهرة ولكن له معنى فلسلفي عميق، والميزة الثانية: هي الإيجاز في اللغة،
والميزة الثالثة: إنه يعتمد الجملة الناقصة كما الحياة، فهي لا تظهر أسرارها الخفية،
جمل إسمية في الغالب معززة بمصدر وقليلاً ما نجد جملاً فعلية. والميزة الرابعة:
توظيفه للحواس من اللمس والذوق والسمع والشم والبصر، التي تستخدم في الهايكو
كإدراكات مادية من الواقع الملموس وليس كاستدعاءات عقلية. في بعض الأحيان يوظف
شاعر الهايكو (الهايكست) أكثر من حاسة من هذه الحواس في نص واحد، فتارة يولد
الهايكو من رائحة وينتقل الى لمس مصدرها، وتارة أخرى يجمع بين الحواس كلها في
هايكو واحد. أما الميزة الخامسة فتوظيف الهايكو للحالات الهزلية بقصد السخرية وبعث
الابتسامة، ففي كثير من الأحيان تتحول الصرامة في الحياة والدقة في التفكير إلى
مواقف مضحكة، من الجدير ذكره أن قصيدة الهايكو تبلورت عبر مراحل، ولم تتخذ شكلها
المتعارف عليه اليوم إلا بعد اشتغال طويل على فن القول اجترحته أجيال من الشعراء
والشواعر.
لم يلتزم الهايكو العربي بضوابط شكل قصيدة
الهايكو اليابانية ولاسيما الكلاسيكية منها، بل أحياناً خرج أيضاً على إطار
التصوير الشعري إلى الطرح الأيديولوجي الذي يتنافى مع قواعد الهايكو التقليدية. وهذا صحيح فيما يخص
الهايكو في لغات العالم باستثناء اللغة اليابانية، وغالبا ما نلاحظ أن الكثير من
النقاد يؤاخذون شعراء الهايكو غير اليابانيين بأنهم شوّهوا الهايكو لعدم فهمهم روح
الهايكو، ومنهم الناقد الأمريكي جيم كاسيان الذي يقول: "تكاثر الآلاف من الأمثلة
غير الملهمة، والتي تم نشرها، والتي تعزز الصورة النمطية السلبية التي تعرض لها
الهايكو". وربما لم
يعلم كثير من النقاد الرافضين لانتشار الهايكو أن الهايكو الحديث في كثير من بلدان
العالم وحتى في اليابان قد تغيّر تغيّرا جذريا في نمطه العام ومضمونه، فبات شعراؤه
يكتبون في الحب والحرب والعمارة والتكنولوجيا وجرت مؤخرا مسابقة عالمية لاختيار
أجمل نص هايكوي موضوعه مدينة طوكيو، شارك فيها كثير من شعراء العالم ومنهم العرب
والكرد من العراق، وقد لخص الشاعر العراقي عذاب الركابي) رأيه فيما يخص اتفاق الهايكو
الياباني والعربي واختلافهما في قوله: "ويتفقان ويختلفان حسب ترمومتر البيئة
ورؤى الإنسان وإيقاع العصر. وقد تطور الهايكو الياباني وخرج بهِ الشاعر – أبيرو
نيكوتسوكا عن نمطية السبعة عشر مقطعاً إلى ( الهايكو الحر)، وكذلك الهايكو العربي
الذي وجدَ في (أنسنة) ظواهر الطبيعة و(المجاز) و( الذاتية) وتقنية (الماسج) إضافةً
مهمةً لهذا الفنّ العظيم الذي نريدُ لهُ أن يصبحَ من مرجعياتِ شعرنا العربيّ
المعاصر".
وبالنظر إلى ما يطلق عليه (الهايكو العربي)، على
نحو عام، تجدر الإشارة إلى نقطتين جوهريتين، الأولى: أن الشعرية العربية الحديثة
قد عرفت الهايكو عن طريق اللغات الأوروبية الوسيطة، ولاسيما الإنجليزية والفرنسية،
وذلك قبل أن تتم الترجمات مباشرة من اليابانية إلى العربية، لذا نلاحظ –كما يقول
الجزيري-أن كثيرا من كتّاب الهايكو العربي لم يتقيدوا بالأطر التقليدية والشروط
الأساسية في الهايكو الياباني إذ يتسم الهايكو العربي "بوجوهه العصرية
الراهنة وتداخلاته مع نماذجه التأسيسية في الشرق الأقصى والعالم الغربي، حافلاً
بآليات بصرية كثيرة، تفجّر المنحى الشعري، وتخلق سيولة النص، وتداعياته، وقفزاته
الذكية، المتسقة مع ماهيته. ومن هذه التجليات البصرية: لوحة التشكيل، اللقطات
الفوتوغرافية، المشاهد السينمائية، المجسمات ثلاثية الأبعاد، النحت، البورتريهات،
الرسوم الكاريكاتورية، وغيرها من الفنون والألوان المرئية".
نموذج تحليلي لنص
هايكوي للشاعر قبادي جليزادة من كردستان العراق يصور الحرب ومخلفاتها، يقول:
حذاء مدمى
صورة أرملة
المتراس
يشتهر الشاعر والهايكست
قبادي جليزادة بصوره الشعرية الابداعية غير المتحجرة، وغالبا ما يلتقط دقائق
الأشياء فيما حوله ولاسيما من الطبيعة، على نحو يستحيل في كثير من الأحيان عنصرا
من عناصر تلك البيئة الصغيرة التي أمامه، لو كان هناك نملتان استحال ثالثهما،
وثاني اثنين ضفدعة، فهو يدخل المستنقعات، ويغوص في البحار ويغدو عصفورا إلى جانب عصفورة
وحيدة تئن لعشها المحروق.
أما حينما يصور لنا
المجتمع الإنساني فلا يبخل بنقل أجمل ما في الجمال وأقبح ما في القبح، فهو حينما
يصور أهوال الحروب لا ينسى أبدا عوز الأرامل ولا حرمان اليتامى ولا انكسار المستضعفين،
لذا نراه يقوم عبر توليف ودمج صورة الشهيد المتقطع اشلاؤه (حذاء مدمى) مع صورة
(أرملة) وصورة (المتراس) بنقل ما تجلبه الحروب لنا، استعمل الهايكست تقنية
التتالي، إذ لم يستعمل أية جملة فعلية، إنما نقل لنا المشهد عبر أشباه جمل ثلاثة
ويسمى التركيب بين الصور بالـ (تورياواسيه) أي تركيب صورتين عند اليابانيين، ولكن
الهايكست أبدع هنا لأنه عمد إلى تركيب ثلاث صور عبر الترتيب والتجاور(توريهايساي)،
وترك الربط بينها إلى القارئ ليشترك في عملية بناء النص، على قدر الصدمة التي
تتشكل لديه من توليف الصور والتي تسمى بالــ (نيبوتسوشوجيكي) أي فعل الصدمة، كما
استعمل أسلوب الـ(يوإن/ Yuen) وهو أسلوب
تحريري ومفهوم جمالي يخصص التحسين الكياسي لإضفاء أجواء سحرية على الواقع عبر
الإيحاء من دون التصريح. المشهد الكلي الذي خلقه الهايكست؛ صورها بسيطة بحيث أن
كثيرا من المحاربين رأوا مثلها، ولكن جليزادة استطاع أن يوصل المشهد الدرامي هذا عن
طريق نص هايكوي لا يتعدى خمس كلمات بلغة مختزلة وهي تقنية تسمى الـ(شيبومي)، وقد
عمد الهايكست الى مراعاة ترتيب الأحداث، إذ جاء أولا بصورة الحذاء المدمى الذي
يشير إلى استشهاد أحد ما، وغالبا ما تكون المرأة هي الضحية الحقيقية حينما تدور
الحرب رحاها، وقد كان لاستعمال المتراس تناسب أو فيما يسمى بالمعادل الموضوعي لأن
الشاعر كحال أغلب الناس أعاقته المتاريس في كل بقعة كان يولي إليها وجهه، فليست
هناك حرب من دون سواتر ومتاريس، حتى بعد أن تضع الحرب أوزارها فإنها تخلف المتاريس
والأرامل واليتامى.
*أكاديمي ورئيس نادي الهايكو الكوردي-كردستان/ العراق